لقد اتضح، كما سبق، من خلال بعض التعريفات التي انصبت على مفهوم المجتمع المدني، أنه يحيل بالأساس على ذلك العمل التطوعي وغير الربحي، الذي يقوم به الإنسان داخل مجتمعه، وغالبا ما يتم تحت مظلة أجهزة مستقلة، عن السلطة والأسرة والأنشطة الاقتصادية الربحية، وقد أُحدث إطار تنظيمي محكم لهذا الغرض، له آلياته التنظيمية والتواصلية، وله قوانينه الإدارية والأدبية والمالية، وعادة ما يطلق عليه اسم (الجمعية)، وتقابل في اللغات الأوروبية الحديثة بمفردات: société, Gesellschaft, association, society, stichting,، وهناك كذلك ما يسمى (المنظمة/Organisation)، وهي لا تختلف كثيرا عن الجمعية، إلا من حيث عدد الأعضاء، الذي غالبا ما يكون أكثر من أعضاء الجمعية، ثم من حيث أن المنظمة لها كيانها المستقل عن الأفراد المكونين لها، في حين يمكن للجمعية أن تقتصر على أفكار وأنشطة ومساهمات الأعضاء المشكلين لها، غير أنه على صعيد الأداء الوظيفي لكلا الكيانين؛ أي الجمعية والمنظمة، داخل المجتمع، يبدو أنه ليس ثمة اختلاف كبير، إلى درجة أنه لا يمكن التفرقة بينهما، إلا من قبل أصحاب الاختصاص من القانونيين والباحثين والإعلاميين. كما تجدر الإشارة إلى أن الجمعية بمثابة النواة الأصلية لغيرها من التنظيمات الجمعوية الكبرى، كالمنظمات والاتحادات والفيدراليات والتنسيقيات والتعاونيات، وغيرها.
وقد رأينا آنفا مدى تعدد أنواع الجمعيات والمنظمات، التي تنشط داخل المجتمع المدني، على الصعيدين الإقليمي والعالمي، وقد حدد أهمها تعريف (تقرير المجتمع المدني) لسانام ناراجي وجودي البشرا، فيما هو: خيري، وتنموي، ومحلي، ونسائي، وديني، ونقابي، ومهني، وتجاري، واجتماعي، وغير ذلك.
من هذا المنطلق، يستفاد أن أهم محرك للمجتمع المدني هو العمل الجمعوي، الذي يتم بكيفية مقننة من خلال أجهزة منظمة، تشتغل وفق قوانين الدولة التي توجد فيها، وهي لا تختلف على المستوى النظري والتشريعي عما هو معمول به على الصعيد العالمي، وتعتبر الجمعية أهم جهاز تنظيمي مقنن، يستطيع الإنسان المعاصر أن يخدم بواسطته مختلف قضايا مجتمعه المدني، الثقافية والرياضية والتعليمية والمهنية والسياسية والاقتصادية، وما إلى ذلك. لذلك فإن العمل الجمعوي يشكل عصب أو أعصاب المجتمع المدني، علما بأن العصب، معجميا، هو "أطناب المفاصل" أو مجموع "الخيوط التي تنتشر في الجسم لتنقل الحس والحركة وتكون الجهاز العصبي"، (ينظر: لسان العرب، والمحيط)، وأيما خلل يكتنف هذه الأطناب أو الخيوط يوقف في الإنسان الحس والحركة، مما سوف يسبب له لا محالة تخريب جهازه العصبي، وهذا ذاته ما ينطبق، بشكل أو بآخر، على المجتمع المدني الذي بغياب أو توقف العمل الجمعوي فيه، الذي هو العصب، سوف تنهار أجهزته الجمعوية التواصلية والتفاعلية، أمام أجهزة السلطة ذات الطابع الرقابي والقمعي، التي قد تكون مباشرة كالشرطة والدرك والمخابرات ونحو ذلك، أو غير مباشرة كالجواسيس والأعيان والعملاء.
إن الدلالة اللغوية للجذر الثلاثي (ج م ع)، الذي يشتق منه المصدر (الجمعية)، يعني الضم والتأليف ولمّ الأشياء المتفرقة، كما تشير إلى ذلك المعاجم اللغوية العربية، جاء في لسان العرب لابن منظور "جَمَع المال المتفرّق يجمَعهُ جَمْعاً ضمَّهُ وألَّفهُ"، وورد في معجم الوسيط لمجمع اللغة العربية "(جَمَعَ) المُتفَرِّقَ جَمْعاً: ضَمَّ بعضَهُ إِلى بعضٍ"، وسوف لن تخرج الدلالة الاصطلاحية على هذا الإطار النظري، ليس على مستوى الخطاب الثقافي العربي فقط، الذي يكتسح الفكر والإعلام المغربي، وإنما كذلك على صعيد المجال التداولي الأمازيغي، إذ تسود مصطلحات: ثامونيت، ثامونت، ثامسمونت... التي يمكن أن نقابل بها مصطلح الجمعية العربي، أو مصطلح association اللاتيني، وهي تشتق من الجذر (ءِمُون: اجتمع)، أو الجذر (ءِسْمون: جمع).
يعرف معجم الوسيط، اصطلاحيا، الجمعية بأنها "طائفةٌ تتأَلَّفُ من أَعضاءِ لِغرَضٍ خاصٍّ، وفكرة مشتركة"، ويحتفظ معجم الغني بما تضمنه هذا التعريف مضيفا عنصر (القانون الداخلي)، إذ الجمعية حسب ما ورد فيه "جَمَاعَةً مِنَ الأَفْرَادِ يَنْتَظِمُونَ فِي عَمَلٍ جَمَاعِيٍّ مُشْتَرَكٍ حَسَبَ قَانُونٍ دَاخِلِيٍّ لِهَدَفٍ وَمَقْصَدٍ مُعَيَّنَيْنِ".
وعندما نجيل النظر في أغلب التعريفات الاصطلاحية لمفردة الجمعية، نجد أنها تنضبط إلى ثلاثة محددات، وهي كالآتي